القلق، على خلاف ما يظنه كثيرون، ليس عرَضًا عابرًا أو اضطرابًا طارئًا وحسب؛ بل هو حالة وجودية، تتجذّر أحيانًا في أعماق النفس، وتتشكل من طبقات متراكمة من الإدراك، والخبرة، واللاشعور.
في علم النفس المعرفي والسلوكي، يُعرف القلق بأنه استجابة انفعالية لمنبه متصور كمهدد، سواء كان ذلك التهديد حقيقياً أو متخيلاً. لكن الوصف العلمي هذا لا يفي بتعقيد التجربة الشعورية التي يعيشها الفرد القَلِق: فهو لا يرى التهديد فقط، بل يسكنه.
ما تحت السطح: الجذر الإدراكي للقلق
القلق لا ينشأ من الفراغ. بل من تشوهات معرفية دقيقة، قد تبدأ من تقييمات لاواعية للذات والآخر والعالم. يرى صاحب القلق نفسه أقل قدرة مما هو عليه فعلاً، والعالم أكثر تهديداً مما هو عليه واقعاً.
من أكثر هذه التشوهات شيوعاً: “التفكير الكارثي”، و”قراءة الأفكار”، و”تضخيم الاحتمالات السلبية”. كل فكرة تنمو في ذهن القَلِق كأنها بذرة رعب تتغذى من تربة عدم اليقين.
في هذا السياق، لا يُنظر إلى القلق كمجرد مشاعر مزعجة، بل كتشويش دائم على البوصلة الإدراكية التي توجه استجابات الإنسان للحياة.
الجسد شاهد على الألم الصامت
في اضطرابات القلق، الجسد لا يبقى على الحياد. فهو يتحدث بلغته الخاصة: تسارع في ضربات القلب، توتر عضلي، اضطراب في التنفس، أرق مزمن، اضطرابات في الجهاز الهضمي.
النظام العصبي السمبثاوي يبقى في حالة استنفار مستمر، كأن الشخص في معركة لا تنتهي.
وهنا يظهر ما يسميه بعض الباحثين بـ القلق المتموضع جسديًا (Somatized Anxiety): حيث يتحول القلق المزمن إلى أعراض جسدية تُفسَّر طبيًا لكن لا يُشفى منها دوائيًا، لأن الجذر ما زال نفسيًا.

القلق بوصفه دفاعًا نفسيًا
من منظور التحليل النفسي، القلق ليس عدوًا، بل حارسًا داخليًا يحاول، على نحو بدائي، أن يحمينا من مواجهة ما لا يمكن تحمله.
إنه دفاع ضد: رغبات مكبوتة، ضد شعور بالضعف، ضد الفقد غير المعالج.
تقول ميلاني كلاين: إن القلق يتشكل منذ الطفولة المبكرة كرد فعل لانفصال الذات عن موضوعات التعلق. وكلما غاب الإشباع العاطفي، تشكلت بدايات اضطرابات القلق.
لماذا يلتصق القلق بالأذكياء والحسّاسين؟
لأنهم يملكون قدرة على الاستبصار، لكن دون تدريب على التنظيم. عقلهم لا يهدأ من التفكير، يتنبأ، يحلل، ويفتش عن الاحتمالات.
كلما زادت قدرة الدماغ على الربط والتخيل، زادت احتمالات القلق. كما أن الحساسية المفرطة للرفض، للفشل، أو للخذلان، تجعل صاحبه في حالة تأهب دائم.
القلق لدى هؤلاء لا يعني ضعفًا، بل عمقًا يحتاج إلى تدريب وانضباط داخلي.
استراتيجيات العلاج النفسي: أكثر من مجرد تهدئة
العلاج الفعّال لا يهدف فقط إلى تقليل الأعراض، بل إلى إعادة بناء التفسير الداخلي للعالم.
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): لتعديل التشوهات المعرفية واستبدال الأفكار المقلقة بأنماط تفكير أكثر واقعية.
- العلاج القائم على القبول والالتزام (ACT): يساعد الشخص على تقبّل القلق دون مقاومته، وتوجيه الانتباه نحو ما هو مهم وقيّمي في حياته.
- العلاج التحليلي: للوصول إلى الجذور اللاواعية للمخاوف، خصوصًا عند من يحملون تاريخًا معقدًا مع التعلق والأمان.
- تقنيات التنظيم العصبي (Neuroregulation): مثل تمارين التنفس العميق، والوعي الجسدي (Body scanning)، وتنظيم الاستثارة العصبية.
الدمج بين هذه المقاربات يمنح فرصة حقيقية للتحوّل، لا مجرد التسكين.
في النهاية: القلق لا يُعالج بالقمع… بل بالفهم
أن تكون قَلِقًا لا يعني أنك ضعيف، بل أنك تحاول أن تفهم، أن تنجو، أن تسيطر على ما لا يمكن السيطرة عليه أحيانًا.
لا تبحث عن الصمت الكامل، بل ابحث عن صوت داخلي أكثر وُدًّا، أكثر رحمة، أكثر توازناً.
القلق لن يختفي فجأة، لكنه يمكن أن يتحول من سجنٍ إلى إشارة، من كابوس إلى معلّم.
لا توجد تعليقات