اضطرابات النوم: حين يُصبح الليل خصمًا لا مأوى

اضطرابات النوم: حين يُصبح الليل خصمًا لا مأوى


النوم ليس راحة للجسد فقط، بل هو أيضًا معادلة معقّدة بين الكيمياء العصبية، والإيقاع اليوماوي (Circadian Rhythm)، والتوازن النفسي الداخلي. إنه المرآة البيولوجية لما يحدث في داخلنا، قبل أن يكون مجرد وقت نحاول فيه “إغلاق اليوم”.

في العُرف الطبي النفسي، اضطرابات النوم ليست مجرد شكوى عابرة، بل هي أحد أكثر الأعراض تداخلاً مع الاضطرابات الأخرى مثل الاكتئاب، القلق، اضطراب ما بعد الصدمة، وحتى ADHD. النوم هو المؤشر الحيوي الأول لسلامة الجهاز العصبي المركزي، ويُعد اضطرابه تنبيهًا داخليًا مبكرًا لخلل أعمق.

التصنيف التشخيصي لاضطرابات النوم حسب DSM-5:

  • الأرق (Insomnia Disorder)
  • فرط النوم (Hypersomnolence Disorder)
  • اضطراب حركة العين السريعة (REM Sleep Behavior Disorder)
  • متلازمة تأخر مرحلة النوم (Delayed Sleep Phase Syndrome)
  • انقطاع النفس النومي (Sleep Apnea)
  • اضطرابات إيقاع الساعة البيولوجية (Circadian Rhythm Disorders)

الأرق المزمن، على وجه الخصوص، يُعتبر اضطرابًا قائمًا بذاته، وليس مجرد عرض. وهو يتميز بصعوبة في الدخول إلى النوم أو الاستمرار فيه، أو الاستيقاظ المبكر دون القدرة على العودة للنوم، مع تأثّر واضح في الأداء اليومي والمعرفي.

من منظور علم النفس العصبي:

الأرق المزمن يرتبط بفرط نشاط في القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex)، وارتفاع مستويات الكورتيزول الليلي، مما يمنع الجهاز العصبي من الانتقال إلى وضعية الراحة.

هذا النمط من النشاط الزائد يُعرف بـ Hyperarousal، ويُبقي الجسد والعقل في حالة “تأهب” مستمرة، حتى في غياب محفّز خارجي.

ومع الوقت، يتحول الفراش من “مكان للراحة” إلى “ساحة قلق”، ويبدأ العقل بتكوين ارتباطات سلبية لاواعية مع لحظة الذهاب إلى النوم.

العلاج النفسي لاضطرابات النوم

يتطلب علاج اضطرابات النوم، خاصة الأرق المزمن، مقاربة متعددة الأبعاد، تشمل إعادة برمجة الإيقاع الداخلي، وتعديل العلاقة النفسية مع النوم.

العلاج السلوكي المعرفي للأرق (CBT-I)

يُعد CBT-I المنهج العلاجي الأنجع في هذا المجال، ويضم مجموعة من المكونات الأساسية:

  • تنظيم الوقت البيولوجي: عبر تعديل مواعيد النوم والاستيقاظ، وضبط البيئة المحيطة.
  • التحكم في المحفّزات (Stimulus Control): لفك الارتباط بين الفراش وبين القلق.
  • التدخل المعرفي: لتفكيك الأفكار الكارثية المرتبطة بالنوم، مثل “لن أنام أبدًا الليلة”.
  • تقييد النوم الزمني (Sleep Restriction): لتقليل الوقت في السرير وتحفيز الجسم على الاستجابة للنوم.

وتُستخدم أدوات مساعدة داعمة مثل:

  • تقنيات التنفس البطيء (4-7-8 Breathing)
  • التأمل الواعي (Mindfulness Meditation)
  • العلاج بالضوء (Light Therapy) لتنظيم الساعة البيولوجية

ماذا يخبرنا النوم عن ذواتنا؟

النوم مرآة داخلية تعكس جودة السلام النفسي لدينا. ليس مجرد توقف مؤقت عن النشاط، بل حالة بيولوجية ضرورية لإعادة ترميم الدماغ، وتنظيم الذاكرة، وإعادة شحن العاطفة.

غالبًا ما يكون اضطراب النوم صوتًا داخليًا يقول: “هناك ما يجب أن يُسمع، هناك ما لم يُعالج بعد”.

في النهاية: لا تطارد النوم… بل أنشئ له بيئة للقدوم

أن تحاول النوم بقوة، هو كأن تحاول الإمساك بالهواء. النوم لا يُفرض، بل يُستقبل. يحتاج إلى بيئة آمنة، ونفس مطمئنة، وجسد مسترخي.

العقل الذي يطارد النوم لا ينام، بل يظل عالقًا في دوامة المقاومة. والمفارقة أن الاستسلام المدروس، والقبول، هما أول خطوات الاستغراق فيه.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *